تعلّقت عيناه بها لحظةَ دخولِها المكان... وظلَّ سارحاً يراقبُها، حتى تنبّه أصدقاؤه حوله، فتعالت الضّحكاتُ والتّعليقاتُ التي لم يسمعها، بل بقيَ مشدوداً وهو يرصدُ حركاتِها، جلستَها، ابتساماتِها، إشاراتِ يديها وهي تتحدّث... كان مأخوذاً بمخلوقٍ جعلَ قلبَه يخفقُ داخلَ صدرِه فجأةً بإيقاعٍ زلزلَ كيانَه كلَّه
وتعمّدَ البقاءَ والتّسمّرَ في مكانه حتى غادرت، فسارَ وراءَها كالمسحور... حتى عرفَ عنوانَ بيتها
ولم ينم تلك الليلةَ وهو يتقلّبُ ويتساءلُ إن كان القدَرُ قد تدخّلَ أخيراً ليجمعَه بالمرأة الحلُم... تلك حالةٌ لم يعشها قبلاً، نداءٌ غامضٌ من مكانٍ قصيّ يقولُ له إنّها هي... وإلا فكيف يُفسّرُ ما حدث له حين لمحَها، هو ليس بمراهق ٍيقع في الحبّ من النّظرة الأولى، هو أنضجُ من تلك التّرهات
كان أوّلُ ما فعله في صباح اليوم التّالي جمعَ المعلوماتِ الضّروريّة عنها؛ مكانِ عملها، دراستها، المستوى المادّي لعائلتها... فأعجبته قاعدةُ البيانات التي حصلَ عليها، بقي أن يقتربَ منها ليتأكّدَ من مشاعرِه أكثر، فافتعلَ سبباً لزيارتها في مكانِ عملها، ومبرّراً للتّحدّث معها... فانسابَ صوتُها في قلبه مثلَ موسيقى كونيّة آسرة
وبدأ يقضي لياليه مؤرّقاً، هائماً، مولّهاً... وصورتُها لا تفارقُ عينيه
بعد أيّام، صرّحَ لوالدتِه بقراره، فلم تسعها الفرحة، وفي زمنٍ قياسيّ، كانت قد نقلت الخبرَ إلى العائلة كلِّها، لتبدأ بالتّحضير للزّيارة والشّروع في طلب يدها، وإعلان الخطوبة... وكان ما أراد، إذ فُتنت عائلته بها، فقضوا الّليلةَ بالحديثِ عن جمالهِا وأخلاقها، وعن عائلتها المحترمة.
ولم تمضِ أيّام حتى عُقدَ القران، وجرت جميعُ المراسم بسلاسة، فازدادَ اقتناعاً أنَّ القدَرَ هو الذي أهداهُ ذلك المخلوق النّادر...
دعاها في اليوم التّالي للغداء في أحدِ المطاعم المفضّلة لديه، فجلست أمامَه مثلَ حوريّةٍ خرجت لتوِّها من البحر في زيارة خاطفة لليابسة لتعيدَ الحياة إلى يباس روحِه... فطفق يتأمّلُها وهو يشعرُ بروحِه تهيمُ في عينيها الكحيلتين... ليقول لذاته: « لا داعيَ أيّتها الغالية لهذا الكحل، ولا للمساحيق التي أثقلتِ بها ملامحكِ النّضرة، ثمّ إنَّ ما شدّني إليك هو أعمق بكثيرمن الجمال الخارجي... إنّها صلةٌ روحيّة لا تحدث إلا للمحظوظين، وكنتُ منهم لحظةَ رأيتكِ «
بعد قليل، اقتربَ مديرُ المطعمِ محيّياً مرحّباً ليقولَ لها بدفء « أهلاً بالآنسة ، نورّتينا، الف مبروك « فنظرت نحوه بفتورٍ لتطلبَ منه فجأة إطفاء التّكييف
وخرجا للتّنزه مشياً على الأقدام في اليوم التّالي، فغمرتُه العذوبة وهي تسيرُ بجانبه متمنّيّاً في قرارة نفسه لو يمتلكُ الجرأةَ للمس يدها... مرّا من أمام محلٍ لبيع الفلافل، اقترح عليها تناولَ بعضها، فوافقت دون حماسة، استلما الكميّة ثم جلسا على أحد المقاعد، اختلسَ نظرةً نحوها، فرآها ملاكاً هبط من السّماء في زيارةٍ خاطفة ليزلزلَ الأرضَ من تحت قدميه... مدَّ كيسَ الفلافل نحوها، فراعته أظافرها... إذ بدت طويلةً ومطليّةً بلونٍ برّاقٍ... كادَ يقولُ شيئاً ما، لكنّه عدلَ في الّلحظة الأخيرة، وبقي يعذُّبه سؤال: « كيف تُديرُ شؤونَ حياتِها اليوميّة بهذه الزّوائد ؟ ماذا إذا حدث ونغزتني بها صدفةً أثناء نومي ؟ « وأفاق من تداعياتِه المُرعبة على حركةٍ منها وهي تُلقي كيسَ الورق الفارغ على الرّصيف بلا اكتراث، في الوقت الذي كانت فيه سلّةُ المُهملات على بعد مترٍ واحد منهما
وفي حين كان يحاولُ إخفاءَ دهشته، مرّت من أمامهما سيّدةٌ مع طفلتها، ولم يعلم لماذا قرّرت الصّغيرةُ الابتسامَ لملاكِه الجميل... فراعَه أنّها اكتفت بمبادلة الطّفلة نظرةً باردة لتهمسَ له: « الأطفالُ مزعجون... لستُ من النّوعِ الذي يُطيقُهم «
ولم ينم ليلتها، إذ داهمَه صُداعٌ غريب دون أن يفارقَه خليطٌ مؤرّق مؤلم من مشاعر الخيبة، والصّدمة، والنّدم الممزوج بمنسوبٍ عالٍ من البلاهة
طلبت منه في اليوم التّالي توصيلَها إلى عملها، وفي الّلحظة التي صعدت فيها إلى السّيارة، لفحتُه رائحةُ عطرٍ نفّاذ... ففتح النّافذة بسرعة وهو يفتعلُ الابتسام، ثم قرّرَ بعد تردّد التّصريحَ برأيه في عطر المرأة عموماً، ليوضّحَ لها أنَّ المبالغةَ باستخدامِه في مكان العمل أمرٌ غير لائق... ليضيفَ لنفسِه بقهر: « هذه كمٌّ قاتل منه، إن كان في العمل أو في أيّ مكانٍ في الدّنيا «
أمّا ردُّها فكان مفادُه أنّه عطرٌ ثمينٌ جداً... والهدفُ منه هو إغاظةُ بعض الزّميلات
هذه الأيّام، تشهدُ أمسياتُه نقاشاتٍ مطوّلة وساخنة مع العائلة لأنّه لمّحَ لهم برغبته في فسخِ الخطوبة... يسألونُه بغضبٍ وحزنٍ وذهول عن الأسباب إن كانت تتعلّقُ بأخلاقِها أو بعائلتها، فينفي تماماً، وبصدقٍ وإخلاص ، ويُقسم إنَّ الدّافعَ وراء قرارِه بعيدٌ عن ذلك كلِّه...
يعيدون السّؤالَ بإلحاحٍ عن الأسباب... فلا يجيبُ سوى بالصّمتِ البليغ